القصة الحقيقية لقطار الشرق السريع
٢٣ مايو ٢٠١٣كانت الإمبراطورية العثمانية تعيش آنذاك فترة ركود وتراجع مستمر في سلطتها المركزية، إلى درجة أن الصحف الأوروبية لم تكن تتحدث إلا عن "الرجل المريض". ولوضع حد لهذا الوضع المتدهور في الامبراطورية قام السلطان عبد الحميد الثاني عام 1898 بوضع خطة تهدف إلى نقل امبراطوريته الشاسعة والممتدة بين البحر الأسود وصولا إلى الخليج الفارسي والبحر الأحمر إلى العصر الحديث. وتكمن هذه الخطة الحداثية في مد خط سكك حديدية يربط بغداد بمدينة اسطنبول وبالتالي بالقارة الأوروبية. وكان الهدف من وراء قطار بغداد أن تتمكن الامبراطورية العثمانية من اللحاق بركب الدول الأوروبية الصناعية.
وفي 18 من أكتوبر/ تشرين الأول عام 1889 وصل الرجل الذي من شأنه أن يدفع بهذا المشروع قدما إلى مدينة اسطنبول: إنه القيصر الألماني فيلهيلم الثاني. ذلك أن العثمانيين كانوا عاجزين عن إنجاز هذا المشروع بمفردهم، اذ أنهم كانوا بحاجة إلى المال والخبراء لمد 1600 كم من سكك الحديد في مناطق وعرة أحيانا.
القيصر البروسي وقصة تحمّسه لمد سكة حديد بين اسطنبول وبغداد
وعلى متن سفينته، التي كانت تحمل اسم "هوهنتسوليرن"، وعلى وقع 21 طلقة من مدفعيات سفينتين عسكريتين من ألمانيا وترانيم النشيد الوطني للإمبراطورية البروسية وصل القيصر فيلهيلم الثاني إلى ميناء اسطنبول. في ذلك الوقت أظهر الألمان والعثمانيون بكل وضوح الشراكة الحميمة التي كانت تربطهما. والبريطانيون بعيدون عن الصورة أعطوا مباركتهم للمشروع من خلف الكواليس، ذلك أن مد سكك حديدية كانت مسألة سياسية بامتياز، كل قوة عظمى كانت تلعب اللعبة الخاصة بها.
وكان العثمانيون يفضلون الألمان الذين لم تكن لهم طموحات توسعية وإنما طموحات اقتصادية وضمان التزود بالمواد الأولية. بالإضافة إلى ذلك كانت تربط الطرفين علاقة صداقة قوية، فمثلا كان الضباط الألمان يقومون منذ 1882 بتكوين وتدريب الجنود العثمانيين. وكانت الإمبراطورية العثمانية بحاجة ماسة إلى هذا المشروع للحاق بركب الحداثة لأنها كانت تشكو من تخلف كبير تقريبا في كل المجلات، وخاصة في قطاع النقل، حيث كانت، على مشارف القرن العشرين، الجمال والأحصنة وغيرها من الدواب ما تزال تستخدم كوسائل للنقل. وبالتالي فقد كانت عملية نقل البضائع أو القوات العسكرية من شرق الإمبراطورية إلى غيرها تدوم أحيانا أشهرا طويلة.
لكن مصرف دويتشه بنك الألماني، الذي كان ينبغي أن ينسّق عملية تمويل مشروع قطار بغداد، كان حينها مترددا جدا نظرا للمخاطر الكبيرة التي تحيط بالمشروع كعدم قدرة العثمانيين مثلا على سداد القروض. لكن القيصر فيلهيلم الثاني، الذي قام بعد زيارته لاسطنبول، بجولة في الشرق استغرقت ستة أسابيع ومتحمسا جدا لفكرة قطار بغداد، مارس ضغوطا هائلة على المصرف. وكان رئيس التنفيذي لمصرف دويتشه بنك، غيورغ فون زيمنس، قد قال حينها غاضبا: "إلى الجحيم بهذا الامتياز وبقطار بغداد". بيد أنه كان في نهاية المطاف عاجزا عن فعل أي شيء أمام القيصر.
37 عاما من أشغال البناء اختفت خلالها امبراطورية بأكملها
وفي مدينة قونيا، وسط تركيا، التي انتهت فيها أشغال مد جزء من سكة الحديد الرابطة بين بغداد واسطنبول، قدم مهندسون ألمان وجنود وخبراء في الإدارة من حدب وصوب على متن دوابهم وجمالهم لاستكشاف المنطقة. وكان من الصعب تقدير ما أنجزه العمال والمهندسون بداية من عام 1903 من عمل في مد سكة الحديد، فتكفي الإشارة هنا إلى أن جبال طوروس التي يناهز ارتفاعها أكثر من 3700 متر بالإضافة إلى الأودية العميقة شكلت تحديا كبيرا أمامهم. ولمد بعض بضعة مئات الأمتار من سكة الحديد فجروا أنفاقا وبنوا جسورا وأزالوا جميع العقبات من الطريق.
بيد أن عملية البناء تعطلت – إلى جانب مشاكل تقنية – بسبب أسباب سياسية: ففي عام 1908 ثار ما يطلق عليهم اسم "الأتراك الشباب" ضد السلطان العثماني وأجبروه على التنحي عن العرش. كما اندلعت بداية من عام 1914 الحرب العالمية الأولى التي تزامن انتهاؤها بتفكك الإمبراطورية العثمانية. وتواصلت عملية مد السكة الحديدية على عجل حتى عام 1918. ولكن ظلت هناك مسافة 300 كيلومتر غير مكتملة.
فقط بعد 37 عاما من انطلاق الأشغال، أي عام 1940، اكتملت عملية مد السكة الحديدية الرابطة بين اسطنبول وبغداد. حينهما لم تعد هناك إمبراطورية عثمانية بل تركيا، وبغداد لم تعد جزءا من هذه الإمبراطورية وإنما عاصمة لمملكة العراق. وأوروبا ترزح تحت أثقال حرب ثانية أكثر دموية ودمارا من الأولى.