المصوِّر الإسرائيلي روبينغــَر: "حقيقة مرة خير من كذبة عسلية"
١٣ أكتوبر ٢٠١٠
دويتشه فيله: ما هي الصورة الأكثر تحريكاً لمشاعرك؟
المصور ديفيد روبيـنـغـَـر: يبدو لي هذا السؤال كما لو قال قائل: أيّـا ً من أطفالك تحب أكثر؟ والجواب صعب جداً. فالأمر يعتمد على الظروف التي كانت أثناء التقاطي الصورة، وعلى الواقع الذي يريد المرء الحديث عنه. إحدى الصور التي تــُحرِّك مشاعري إلى حد كبير هي مشهد هبوط الطائرة المصرية في تل أبيب ونزول الرئيس السادات إلى أسفل درج الطائرة حيث قوبل بتحيـّة الجيش الإسرائيلي له بعد أن خاض الطرفان أربعه حروب ضد بعضهما البعض. لقد كان ذلك المشهد مؤثراً للغاية بالنسبة لي.
وماذا عن الصورة التي التقطتـَــها عند حائط المبكى في القدس؟
لقد أصبحت هذه الصورة التي التقطتها عند حائط المبكى رمزاً عظيما. كان الجميع هناك في نشوة روحية لا تصدق. يسألني الناس كثيرا إنْ كنتُ حقا بكيتُ عند التقاطي للصورة؟ فأجيب : نعم، بكيتُ ليس لأن لديّ صِـلةُُ دينية بحائط المبكى. الأمر ليس كذلك، ينبغي ألا ينسى أحد أننا كنا في حالة خوف من الموت لمدة ثلاثة أسابيع قبل حرب الستة أيام. كنا على يقين من أننا سنفقد الآلاف من الناس في هذه الحرب. ثم فجأة وبعد ستة أيام من الحرب، يتحوّل الخوف إلى نصر ساحق. وينقلب الجوّ إلى حالة من الطمأنينة لا يمكن تشبيهها إلا برجـُـل حـُـكِم عليه بالإعدام شنقاً، ولــُـفَّ حول عنقه حبل المشنقة بالفعل، وفجأة يأتي شخص ما ويقول: "أبشِــرْ! فلن نشـنقــك، بل إننا سنـُـنـَصِّــبـك ملـِـــكـاً علينا". إنه شعور لا يمكن وصفه.
هل كنتَ تقصـِد فعلاً التقاط الصورة بحيث يكون لها هذا الأثر في النفوس؟
لا، على الإطلاق. بل إلى يومنا هذا مازلت أعتقد أن هذه الصورة ليست صورة عظيمة، بل صورة عادية إلى حد ما. لكن العـظـَمة الرمزية للصورة ليس مصدرها المصوِّر، بل المـُـشاهد. والناس إجمالاً يرون في تفاصيل أية صورة ما يرغبون هم أنفسهم في رؤيته. بل وفي وقت لاحق وبالتحديد بعد عشر دقائق من التقاطي لهذه الصورة قمتُ بالتقاط صور أخرى اعتقدت أنها أفضل بكثير من الأولى. وقد التقطها عندما ظهر الحاخام الأكبر على القوات المسلحة الإسرائيلية ونفخ في البوق وفي يديه لفائـِف التوراة التي يضعها الجنود على أكتافهم. اعتقدتُ حينها أنها هي الصورة الرمزية المحركة للمشاعر. ولكن بعد ذلك رجعت إلى البيت فأشارت زوجتي بيدها إلى الصورة وقالت: "انظر، إنها صورة جميلة. قلتُ: "هذه الصورة لا شيء. إنه منظر لثلاثة جنود واقفين على أقدامهم. كان عندي ثلاث صور سلبية من هذا المشهد، فقمت بتحميض إحداها.
وكنت أتمتع بمكانة محترمة لدى الجيش الإسرائيلي. فقد كان مسموحا لي الذهاب أينما أردت. كنت أتمتع بهامش من الحرية لم يحظ َ بها كثير من المصوِّرين غيري. ولأني كنت ممتنا للجيش فقد أهديته إحدى الصور السلبية التي كانت لديّ. لقد أعطى الجيش الإسرائيلي هذه الصورة، لسوء الحظ في ذلك الوقت، بل لحسن الحظ والحمد لله كما أقول اليوم، أعطاها لِـمكتب الصحافة الإسرائيلي الذي طبعها وباعها بنحو نصف يورو لكل من أراد شراء نسخة منها. واشترى الناس منها عددا كبيرا جدا. لا بد أنّ هذه الصورة كانت أرخص صورة اشترتها وكالة الاسوشيتد برس "AP" في كل حياتها المهنية. بل أن هنالك من المصورين مــَـن اشترى نسخاً منها ووضع على ظهرها ختمه الخاص. ومن خلال هذه السرقة انتشرت الصورة في جميع أنحاء العالم. لو لم يحدث ذلك لــما كانت ملأت هذه الصورة فراغ حوالي نصف صفحة من مجلة Time الشهيرة، ولولا هذه السرقة لما عرفت هذه الصورة هذا الانتشار الواسع. لذلك فإنني أهدي جزيل امتـناني وتقديري لكل اللصوص الذين سرقوا نسخاً من الصورة ونشروها.
- ماذا كان الدافع وراء دخولك في معمعة الحرب والتقاط الصور؟
ما هي دوافع أي مصوّر صحافيّ؟ الدافع هو أن يكون المصور في قلب الحدث. فلا صورة تستحق أن تكون حياة إنسان ثمنا لها. كم من المصوِّرين الصحافـيين في بغداد أو في غيرها من الأماكن قـُـتِـلوا لأنهم كانوا يريدون التقاط صورة معينة في مكان معين وفي ظروف معينة.
لا يوجد سوى نوعين من الأبطال. البـُـلهَاء، وأولئك الذين يخجلون. أعني الصحافي المصوِّر الذي يشعر بالخجل لأن بقية الصحافيين سائرون إلى موقع الحدث، فيشعر بالخجل ويلحقهم سائراً وراءهم. هذا هو دافع كل مصور مجازف يخاطر بحياته من أجل صورة.وهنا أأكد أن لا صورة تستحق أن تكون حياة إنسان ثمنا لها.
كيف كان من الممكن لك التقاط الصور في ظروف المعاناة والحرب؟
الناس يسيؤون فهم مسألة تصوير الحروب في العصر الحديث. ففي الحروب العصرية لا يتم تـصوير الحرب، وإنما يتم تصوير آثارها ونتائجها كالجرحى والقتلى، والدبابات المحترقة. لقد مضى زمن القتال بالحراب والخناجر.
في الواقع لا يحظى أي مصوّر اليوم على صور معبرة للحرب حتى وإنْ كان موقعه في الجبهة الأمامية. فقد حدث لي هذا بالفعل في حرب يوم الغفران. ففي اليوم الأول من الحرب كنت في طليعة القوات الإسرائيلية. بدأت القوات العسكرية عملية الزحف في الساعة الرابعة فجرا ولم أتمنكن حتى الساعة الرابعة عصراً من العثور على أي لقطة جديرة بالتصوير. لكن عندما نزلتُ من السيارة المدرعة وتوجهت إلى الخلف ومكثت قليلا وراء الجبهة. هناك حظيتُ بصور للجنود الجرحى والقتلى والدبابات المحترقة. هذه هي الصور التي يراها المرء في الحروب. أما القذائف والرصاص فلم يكن بالإمكان تصويرها.
كيف كان يمكنك العيش مع الصور المروعة التي كنت تراها أثناء الحرب؟
يعتاد المرء عليها. يبدو الأمر صعباً وفظيعاً، ولكن المصوّر يلتقط صور القتلى ومن ثم يذهب لتناول الفطور. للأسف يجب على المرء الاعتياد على ذلك. لا يمكن للمرء أن يعيش في راحة إنْ كان عليه تتبع الكوارث طوال الوقت ومعايشة آثارها. إنْ ذهبت الآن إلى الشارع ورأيت أمام عينيك كلبا تدهسه سيارة، فلن تتمالك نفسك من الفظاعة. هل يمكنك تخيل حجم الفظاعة التي ستشعر بها عند رؤيتك لـ 10000 شخص لقوا حتفهم في دارفور؟ هل يمكنك العيش في راحة؟ قد تـقسو مشاعر المرء لكنه لا يفقد مشاعره بتاتا ً.
ما هي حدود حرية الصحافة في رأيك؟
معرفة حدود حرية الصحافة بسيطة للغاية. وليس على المرء إلا أن يسأل: ما هي الأمور التي من حق عامة الناس مشاهدتها أو قراءتها؟ لا أعتقد أنه من حقي أن أرى كيف تبدو مؤخرة المستشارة الألمانية ميركل. إن هؤلاء ليسوا مصورين صحافيين بل مصورين يبحثون عن صور فاضحة للمشاهير. وهنا يكمن الفارق الكبير. ولكن إذا رأيتُ أن السيدة ميركل دخلت محلا ً وسرقت شيئاً ووضعته في كيس بالخفاء، فلا بدّ لي من تصويرها لأن الجمهور يحتاج إلى معرفة ذلك.
هل يمكنك البقاء على الحياد والموضوعية كمصور صحافيّ؟
لا وجود للموضوعية الكاملة. هناك دوماً أمور قريبة إلى قلب الإنسان وأمور بعيدة عنه. لقد صوّرت أيضاً في بعض الحروب التي لم تشارك فيها إسرائيل. فقد عملت في حربين اثنتين في قبرص وكان الأمر أسهل بكثير. وفي الحربين تعاطفتُ بالقدر نفسه مع اليونانيين والأتراك. وشعرت بالمشاعر ذاتها تجاه كـِـلا الطرفين. في هذه الحالة تكون المسألة سهلة. لكن الوضع يكون صعباً إذا كان المقربون منك مشاركين في الحرب. ورغم ذلك يمكن للمرء أن يـُــبـقيَ نفسه موضوعياً إلى حد كبير، أعني أن يبقى موضوعياً فيما يتعلق بالحقائق.
لا مكان للموضوعية إذا اتبع المرء مشاعره. مستحيل أن أقول لنفسي: "لن ألتقط هذه صورة لهذا المشهد، لأنها قد تشوه صورة إسرائيل". لم يحدث لي هذا من قبل، وما ينبغي أن يحدث لي. لقد تم اتهامي أحياناً: "كيف تجرؤ على التقاط صورة كهذه؟ إنها صورة تجعل سمعة إسرائيل في الحضيض. وكنت أرد دوماً بالقول: "إن أسوأ حقيقة خيرٌ من أجمل كذبة".
وقد حدثت معي قصة على هذا النحو ذات مرة، وذلك حينما هاجم إرهابيون منزلاً. وتمكن الجيش الإسرائيلي من السيطرة عليهم. فاقتحم عدد كبير من الناس المتوحشين الشقة وألقوا بأجسادهم من النافذة، وفي الأسفل قامت مجموعة من البشر الذين نـُزعت عن قلوبهم الرحمة بإضرام النار في أجسادهم. صورتُ ذلك من إحدى النوافذ في الأعلى. وقد قامت مجلة Time بنشر الصورة . حينها قال لي صديق عزيز، وهو بالمناسبة جنرال في الجيش : "كصديق أقول لك بأني لو كنت رأيتك تلتقط هذه الصورة لكنتُ حطمتُ الكاميرا". فـقلت: "لقد صورت الصورة، وهذه هي الحقيقة. إنها ليست حقيقة جميلة، لكنها الحقيقة".
تخيل: لو أنّ آلة التصوير كانت حُطـّمَت بالفعل، لكانت الشائعات انتشرت في كل العالم حول كيفية تعامل الإسرائيليين مع الجثث ومصيرها. ماذا كنت ستقول لو حصل ذلك؟ الحقيقة تظهر في النهاية. وحقيقة بائسة خير من كذبة مُزَيَّنة، بل إنّ الحقيقة السيئة أكثر نجاحاً بكثير. ولذلك لم يسبق لي أن تركت الآخرين يُـملون عليّ ما ينبغي أن أصورّه وما يجب ألا أصوره. وعند وجود رقابة من العسكريين كنت أجادلهم بقوة.
ما هو رأيك في الرقابة؟
يجب أن تكون الرقابة. أستطيع أن أفهم قول العسكريين: نعلم أنك على جبهة القتال ونحن نستعد لشن هجوم على مواقع محددة للعدو. فإن سمع الصحفي المصوّر ذلك ونشرها قبل أن تبدأ المعركة، فإنه يتحمل مسؤولية حياة الجنود. فالعدو يستمع أيضاً لما تقوله الصحافة. بعبارة أخرى أعتقد أن الرقابة ضرورية عند وجود إجراءات عسكرية فورية. أنا أسمح بالرقابة في هذه الحالة.
هل يمكن أن يتحقق سلام بين إسرائيل والفلسطينيين؟
لا يمكن أن يتحقق سلام حقيقي ربما في وقتنا الحاضر، ولكن قد يتحقق وضع شبيه بوضع إسرائيل ومصر على سبيل المثال. وأن يتم تبادل السفراء. هذا نوع من السلام. لكنه لن يكون سلاما دافئا، ولن تكون صداقة حميمة. لكن سلاما ً بارداً بالنسبة لي هو خير بعشر مرات من حرب ساخنة. سلام بارد : دون أن يخسر أحد، ومن دون علاقات كبيرة ولا علاقات حب. وعلى أية حال لا توجد علاقات حب بين الدول. هناك مصالح فقط. وفي ظل وجود حالة من المصالح المشتركة يحدوني أمل في أن الفلسطينيين والإسرائيليين سيحرزون تقدما في عملية السلام. لقد حققنا بالفعل تقدما منذ بدأ رئيس وزراء من اليمين المتطرف يتحدث عن حل الدولتين. ولو كان تفوّه قبل سنوات متلفظا بحل الدولتين لكان طرد من حزبه على الفور. هناك بالتأكيد بعض التقدم.
كيف يمكن أن نحقق السلام؟
كلا الجانبين في حاجة إلى أن يقوم بإنقاذ نفسه من نفسه وذلك بتفعيل دور القوى العظمى. علينا أن نجبر أنفسنا على ذلك.
إلى أين تتجه إسرائيل وفلسطين خلال عشر سنوات في نظرك؟
ماغدالينا زورباوم / علي المخلافي
مراجعة: يوسف بوفيجلين
ولد المصوِّر اليهوديّ ديفيد روبينغــَر عام 1924 في فيينا عاصمة النمسا وهاجر بعد خمسة عشر عاما من ذلك إلى منطقة الانتداب البريطاني أنذاك، فلسطين. وعقب مشاركته في حرب 1948، بدأ يعمل مصورا صحفياً محترفا لدى مجلتــَيْ Time و Life. غطى ديفيد روبينغــَر أوجه إسرئيل المختلفة: الحروب ومفاوضات السلام، والمهاجرين اليهود ، وكبار رجال الدولة ولحظات الفرح والحزن التي شهدتها البلاد خلال القرن العشرين.