تونس ـ مخاوف من أن يسرق الملتحون ثورة الياسمين
٨ أغسطس ٢٠١١في شارع الحبيب بورقيبة في تونس، يقف عدد من الرجال الملتحين، يرتدون عباءات واسعة، ويتناقشون حول السياسة. أحدهم يدين بشدة فصل الدين عن الدولة معتبراً أنه كُفر، وآخر يشكو من "المجتمع الفاسد". المشهد غريب في تونس – الدولة العلمانية. مشهد لم يكن أحد ليتخيله منذ عدة أشهر، حيث كان البوليس السري يقوم بالقبض الفوري على مثل هؤلاء الرجال.
الشارع المشهور الواقع في قلب العاصمة التونسية يحمل اسم أول رئيس حكم البلاد بعد الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي، حكم البلاد في الحقبة من عام 1957 حتى عام 1987. ولقب الرئيس التونسي الأول بعدة ألقاب من بينها لقب "أبو الأمة"، وهو الذي راهن على العلمانية والمساواة بين الجنسين، رغبة منه في بناء تونس حديثة. وبدا له أن القوى الإسلاموية تهدد هذا الهدف بشكل كبير، لذلك قام بقمع هذه القوى بصرامة. لكن منذ ثورة الياسمين، وسقوط خليفة بورقيبة، زين العابدين بن علي، في 14 يناير/كانون الثاني عام 2011، عاد هؤلاء إلى الشوارع وإلى الساحة السياسية كذلك.
"هؤلاء الناس يخيفونني"
وضع لا يناسب الجميع! سيرين بالهادي، تجلس مع أصدقائها في أحد المقاهي الواقعة على طول الشارع المزدحم. بكل فخر، تعرض الشابة التونسية حقيبة اليد الجديدة وردية اللون التي اشترتها مؤخراً. مجموعة الأصدقاء المكونة من شباب وشابات يدخنون السجائر ويستمتعون بشرب القهوة والشاي والبيرة. بين الحين والآخر يلقي البعض نظرات مريبة نحو هؤلاء الرجال الملتحين. نظرات مليئة بالتوجس تملأ عيون هؤلاء الشابات والشباب الذين ترعرعوا في ظل تونس علمانية والذين يطمحون للعيش في دولة ديمقراطية مبنية على أسس الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة. "هؤلاء الناس يخيفونني"، كما تقول سيرين البالغة 27 عاما والتي كانت تشارك وأصدقاؤها يومياً في المظاهرات التي أدت إلى الإطاحة بالرئيس السابق بن علي، وضحت في سبيل ذلك بعملها كمهندسة. ثم تضيف "إذا ما وصل الإسلاميون إلى الحكم، فسنرجع إلى الوراء. حتى أبعد من عهد بورقيبة".
مخاوف هؤلاء الشباب لا تقتصر على الرجال الملتحين الذين يجلسون على الرصيف المقابل للمقهى حيث، لكنها موجهة بشكل خاص نحو حزب النهضة، أكثر الجماعات الإسلامية شعبية في البلاد. فبعد أن مُنع هذا الحزب لعقود طويلة، عاد مرة أخرى للجبهة الأمامية في العملية السياسية في البلاد.
زيارة للقائد الإسلامي
راشد الغنوشي، البالغ من العمر 70 عاماً، هو القائد والأب الروحي لحزب النهضة ويتمتع باحترام كبير في الأوساط السياسية ذات التوجه الإسلامي. فالغنوشي عضو في التنظيم العالمي للإخوان المسلمين كما أن كتاباته تعتبر بمثابة مرجعية لمنظومات الإسلام السياسي في كل أنحاء العالم. وكان الغنوشي ناشطاً سياسياً في حقبة الرئيس بورقيبة، ولذلك فقد اعتقل عدة مرات، وعند قيام ثورة الياسمين عاد إلى تونس بعد أكثر من عشرين عاماً قضاها في منفاه في لندن.
الغنوشي يستقبل ضيوفه في منزل واقع في إحدى ضواحي تونس العاصمة. عند الباب يقف حارس ضخم البنية ذي لحية ويرتدي نظارة سوداء. أما في الحديقة فتوجد ملابس نساء وأطفال معلقة على حبل غسيل بين أشجار الفواكه. الكثير من الرجال يتجولون في ساحة المنزل ويبدون في غاية السعادة وهم يجرون مكالمات عبر هواتفهم النقالة في انتظار استقبال “الأخ راشد” كما يطلقون على زعيم حزب النهضة.
في وسط غرفة الاستقبال الواسعة يقف راشد الغنوشي ببذلته الرمادية وقميصه الأبيض وحذاءه الجلدي الأسود وهو يتابع الأخبار على قناة الجزيرة. ويؤكد الغنوشي أن المخاوف تجاه حزبه ليس لها ما يبررها، وأنها لا تزال تعتمد على "سياسة التخويف" التي كان يعتمد عليها الرئيس السابق زين العابدين بن علي لضرب المعارضين السياسيين له.
ويضيف الزعيم الديني أن هدف حزبه هو "تطهير" المجتمع من بقايا نظام زين العابدين بن علي وإقامة دولة ديمقراطية حرة مستقلة، تعامل جميع المواطنين على قدم المساواة، وهي أهداف لا يجب أن يخشاها لا المواطنون التونسيون ولا الغرب، على حد قوله.
الأسلمة كهدف سري؟
ويؤكد الشيخ بحزم على رفضه الواضح لأيديولوجية القاعدة، مشدداً: "لقد قلنا من قبل ومازلنا نقول إن الأنشطة التي قام بها تنظيم القاعدة ليست مشروعة، بل هي أنشطة إرهابية". ويضيف القاعدة لم تقم بإسقاط أي نظام فاسد في المنطقة، على عكس ما قامت به الثورتان السلميتان اللتان قامتا في تونس ثم مصر. ويضيف الغنوشي أن "الإسلام والحركات الإسلامية في الحقيقة تعاني كثيراً بسبب تبعات هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول". ويشكو الغنوشي أنه منذ ذلك الحين، ينظر للأقليات المسلمة في الغرب كـ"مشتبه بهم"، كما يوضعون تحت المراقبة المستمرة للشرطة.
أما رضا بلحاج، المتحدث باسم حزب التحرير الإسلامي الأكثر تشددا، فيرى أن "أعمال العنف تضر أكثر مما تنفع"، كما أكد خلال اللقاء به في أحد المقاهي الواقعة في شارع الحبيب بورقيبة. بلحاج يرفض الحديث عن ملاحقته من قبل النظام التونسي السابق، ويفضل الحديث عن الثورتين التونسية والمصرية، اللتين يعتبرهما غير مكتملتين، لكنهما "خطوة هامة" على الطريق "لتحرير الأمة الإسلامية في العالم أجمع". ويضيف وهو يجول ببصره: "بالطبع هذه الثورات إسلامية، فالأفراد الذين قاموا بها مسلمون".
على مقربة من المقهى يوجد حشد صغير من المتظاهرين يردد ون شعارات ضد الفساد – إحدى مخلفات النظام السابق – وضد بقايا حزب الإتحاد الدستوري ورئيسه المخلوع بن علي.
لكن المتحدث باسم حزب التحرير الإسلامي لم ينأى بنفسه أو بحزبه عن تنظيم القاعدة، وإن كان يرى أن العنف مرفوض، ويعتبر أنه كان لأحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 " تبعات سيئة، لأن المسلمين لسوء الحظ لا يمتلكون وسائل الإعلام لإقناع الرأي العام بحسن نواياهم". ولكن بلحاج لا يخفي أن أحد أهم أهداف حزبه هو جعل الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد للتشريع في دولة تونس.
وهذا ما يخيف سيرين وأصدقاؤها، وهو قيام دولة غير ديمقراطية لا يجدون فيها الحريات الشخصية الكاملة وحق المشاركة السياسية التي طالما حلموا بها وقدموا من أجلها التضحيات خلال ثورة الياسمين. فهم يعرفون أن مشاركة الأحزاب الإسلامية في نجاح الثورة كانت محدودة، ويدركون أن هذه الأحزاب قد تحاول استغلال الحريات السياسية التي حققتها الثورة من أجل الاستيلاء على السلطة. حينها سيذهب حلم الحرية هدرا، كما تقول سيرين: "إذا ما وصل الإسلاميون إلى السلطة، فلن يتبقى لنا سوى ترك البلاد. حينها ستصبح ثورتنا هباء".
خالد الكوطيط /سمر كرم
مراجعة: عبده جميل المخلافي