فرنسا مهددة بالانزلاق نحو أزمة اقتصادية ومالية "كارثية"
٥ ديسمبر ٢٠٢٤في تطور دراماتيكي بعد سلسلة من الأزمات السياسية، قدم رئيس الحكومة الفرنسية ميشيل بارنييه استقالته اليوم الخميس (الخامس من ديسمبر/كانون الأول 2024) إلى الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي طلب من بارنييه وحكومته البقاء في تصريف الأعمال حتى تعيين رئيس وزراء جديد. جاء ذلك غداة تصويت نواب المعارضة بحجب الثقة عن الحكومة.
هذه اتطورات من شأنها أن تدفع بثاني أكبر قوة اقتصادية في الاتحاد الأوروبي إلى أزمة سياسية أعمق تهدد قدرتها على التشريع والسيطرة على عجز ضخم في الميزانية.
وكانت الحكومة الفرنسية تأمل في الواقع في توجيه اقتصاد البلاد إلى مياه أكثر هدوءًا. فبعد أن ارتفعت توقعات عجز الميزانية لهذا العام بشكل مفاجئ من حوالي خمسة في المائة إلى أكثر من ستة في المائة من الناتج الاقتصادي السنوي، قدم رئيس الوزراء المعين حديثًا بارنييه خطة في أكتوبر لخفض عجز الميزانية إلى نسبة الثلاثة في المائة المنصوص عليها في ميثاق الاستقرار الأوروبي بحلول عام 2029.
وبدأ الاتحاد الأوروبي إجراءات استثنائية في يونيو الماضي ضد عجز الميزانية في البلاد.
ولجأ بارنييه إلى محاولة تمرير الجزء الأول من خطته من خلال البرلمان في ميزانية عام 2025 وربط القانون بالتصويت على الثقة، لأن هذا الأمر كان ضروريا لأن الحكومة لا تتمتع بالأغلبية البرلمانية منذ الانتخابات البرلمانية المبكرة في يوليو الماضي. لكن النواب في الجمعية الوطنية (البرلمان) اختاروا حجب الثقة عن حكومة بارنييه ، فقط بعد ثلاثة أشهر على توليه مهامه، في خطوة تعمق الأزمة السياسية والاقتصادية في البلاد.
وعاقب اليسار واليمين المتطرف بارنييه على لجوئه إلى استخدام صلاحيات دستورية خاصة لتمرير جزء من موازنة لم تحظ بالتأييد والتي سعت إلى توفير 60 مليار يورو لتقليص العجز.
وكان الرئيس إيمانويل ماكرون قد قام بحل البرلمان في يونيو بعد أن حصل حزبه على نصف عدد الأصوات التي حصل عليها حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف الذي جاء في المرتبة الأولى في الانتخابات البرلمانية للاتحاد الأوروبي.
وأفضت الانتخابات التشريعية المبكرة إلى جمعية وطنية مشرذمة وموزعة على ثلاث كتل هي تحالف اليسار ومعسكر ماكرون واليمين المتطرف من دون أن يملك أي منها الغالبية المطلقة.
تراجع القدرات التنافسية للشركات
ويبدو في الوقت نفسه أن الاقتصاد الفرنسي يحقق أداءً جيدًا نسبيًا في الآونة الأخيرة. فمن المتوقع أن ينمو هذا العام بنسبة 1.1 في المائة، في حين من المتوقع أن ينخفض الناتج المحلي الإجمالي الألماني مثلا بنسبة 0.2 في المائة، حسب توقعات الحكومة الألمانية. ويبلغ معدل البطالة في فرنسا 7.4 في المائة - وهو معدل مقبول بالنسبة للبلد وفقًا للمعايير التاريخية. كما يبلغ معدل التضخم أيضًا حوالي 2 في المائة - وكان قبل عامين لا يزال أعلى من 5 في المائة.
ومع ذلك فإن هذه الأرقام الإيجابية نسبيًا لا يمكن أن تخفي الضعف الأساسي للاقتصاد الفرنسي، حسب دينيس فيران، رئيس معهد الأبحاث الاقتصادية Rexecode ومقره باريس. وقال لـ DW: "لقد فقدت الشركات الفرنسية - والأوروبية قدرة تنافسية كبيرة مقارنة بالصين منذ عام 2019". واضاف "في أوروبا ارتفعت تكاليف الإنتاج في المتوسط بنسبة 25 في المائة، وفي الصين بنسبة 3 في المائة فقط". في ألمانيا يرجع ذلك في المقام الأول إلى ارتفاع التضخم وأسعار الفائدة وأسعار الطاقة بشكل مؤقت - خاصة بعد بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022.
أزمة هيكلية
ويقول فيران: "يسود مناخ من الترقب: "كل ثلاثة أشهر نقوم باستطلاع رأي 1000 من رؤساء الشركات الفرنسية الصغيرة والمتوسطة الحجم حول سلوكهم الاستثماري. وفي نهاية شهر أكتوبر ذكر 36% منهم فقط أنهم يرغبون في الحفاظ على استثماراتهم - و45% منهم يرغبون في تأجيلها و18% منهم لا يرغبون في الاستثمار على الإطلاق. وعلى الرغم من أن هذا الاتجاه كان قد ظهر بالفعل في بداية العام، إلا أن الانتخابات البرلمانية المبكرة قد زادت من حدته إلى حد كبير".
كما أظهر استطلاع للرأي أجرته شركة الاستشارات البريطانية إرنست ويونغ على 200 من رؤساء الشركات الدولية في منتصف نوفمبر أن حوالي نصفهم قد قلصوا أو أجلوا خططهم الاستثمارية في فرنسا. وحسب هذه الشركة كانت فرنسا هي الدولة الأوروبية الأكثر جذبًا للاستثمارات الدولية منذ عام 2019.
كما يؤكد فيليب دروون، محامي الإفلاس في شركة Hogan Lovells للمحاماة في باريس، على عزوف المستثمرين، ويقول "من الصعب جدًا في الوقت الحالي العثور على مشترين للشركات في إجراءات الإفلاس. لدي 60 منها في طور الإعداد في الوقت الحالي، وهو عدد هائل"، ويضيف لـ DW "إن عدد حالات الإفلاس يقترب من عدد حالات الإفلاس التي حدثت خلال الأزمة المالية العالمية في عام 2008". وحسب التقديرات من المتوقع أن تتقدم حوالي 65,000 شركة بطلبات إفلاس هذا العام - مقارنة بحوالي 56,000 شركة في العام الماضي.
ويؤكد الخبير: "هذا أيضًا تأثير اللحاق بالركب - حيث يتعين على الشركات الآن سداد القروض الممنوحة خلال جائحة فيروس كورونا - ولكن ليس هذا فقط". "إنها أيضًا أزمة هيكلية، على سبيل المثال في قطاع السيارات مع الانتقال إلى السيارات الكهربائية، ولكن أيضًا في قطاع العقارات، حيث يقل الطلب على المكاتب بعد فترة طويلة من العمل من المنزل". بالإضافة إلى ذلك، أدت أسعار الفائدة المرتفعة في سوق رأس المال إلى زيادة صعوبة تمويل الاستثمارات، حيث تبدو الأخيرة أقل جاذبية نتيجة لذلك.
حل البرلمان كان "خطأ فادحا"
ومع ذلك لا ترى آن صوفي ألسيف، كبيرة الاقتصاديين في شركة الاستشارات الإدارية BDO ومقرها باريس، أن الوضع الاقتصادي مأساويًا إلى هذا الحد - لولا العامل السياسي. وقالت لـ DW: "مؤشراتنا الكلية تتحسن" واضافت في مقابلة قبل التصويت على حجب الثقة ، "إذا سقطت الحكومة الآن ولم تكن هناك ميزانية محددة لعام 2025، فقد ننزلق مباشرة إلى أزمة اقتصادية، ستكون كارثة". "وهذا من شأنه أن يشير للمستثمرين إلى أن فرنساغير قادرة على تنفيذ خطة لخفض ديونها".
ومن المحتمل أن يتم العمل بميزانية عام 2024 في العام التالي، "لكن تلك الميزانية هي التي زادت من عجز ميزانيتنا إلى أكثر من ستة في المائة"، كما تؤكد ألسيف. وتضيف "لقد كان قرار ماكرون بحل البرلمان خطأً فادحًا" لأن ذلك خلق حكومة ائتلافية تعتقد ألسيف أنها لا تصلح لفرنسا.
كريستوفر ديمبيك، مستشار الاستثمار في فرع باريس لشركة Pictet Asset Management السويسرية لإدارة الأصول، يضع هذا الأمر في منظوره الصحيح. ويقول لـ DW: "من المبالغة القول بأن فرنسا تواجه أزمة مالية. هذا يعني أن فرنسا لن تكون قادرة على إعادة تمويل ديونها - تمامًا مثل اليونان منذ عام 2009".
وحسب هذا الخبير الاقتصادي، فإن مثل هذا الاتجاه لم يظهر حتى الآن في الأسواق المالية: "يخبرني مديرو صناديق الاستثمار الأمريكية أنهم قد وضعوا في حساباتهم منذ فترة طويلة المخاطر السياسية في الحسبان، ويبلغ الفارق - أي الفرق في أسعار الفائدة على السندات الحكومية لمدة عشر سنوات مقارنة بألمانيا - حوالي 80 نقطة، حيث تدفع فرنسا فائدة تزيد بمقدار 0.8 نقطة مئوية فقط عن ألمانيا. وهذا مقبول تمامًا".
هل لا تزال فرنسا "أكبر من أن تفشل"؟
وتبلغ أسعار الفائدة على السندات الحكومية الفرنسية لمدة عشر سنوات حاليًا حوالي ثلاثة في المائة. ومع ذلك فقد تجاوزت مؤخرًا تلك الخاصة باليونان لأول مرة في التاريخ. وحتى الإعلان عن الانتخابات البرلمانية المبكرة، كان الفارق لا يزال حوالي 50 نقطة.
وبالتالي يبدو الخبير الاقتصادي فيران أقل ثقة في أن البلاد لن تنزلق إلى أزمة مالية، ويقول: "حتى الآن لطالما اعتمدت فرنسا على كونها "أكبر من أن تفشل"، أي أكبر من أن تسمح لها الدول الأوروبية الأخرى بإفلاسها". "لكن بروكسيل بدأت تفقد صبرها شيئًا فشيئًا مع عدم قدرة فرنسا على خفض ديونها". هذه الأخيرة الآن أعلى من الناتج المحلي الإجمالي لفرنسا.
ومن شأن الأزمة السياسية الحالية في فرنسا أن تزيد من ضعف الاتحاد الأوروبي الذي يعاني بالفعل من انهيار الحكومة الائتلافية في ألمانيا، وذلك قبل أسابيع من عودة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
أعده للعربية: م.أ.م