الترجمة في مجتمع بلا معرفة
٢٧ مارس ٢٠٠٦كانت الترجمة واحد من العوامل الأساسية في النهضة العربية الحديثة في بداية القرن التاسع عشر، فقد كانت بدايات صدمة الترجمة المعرفية هي التي فتحت الأبواب واسعة لمجتمعات عربية جديدة نامية قدمت إشارات كثيرة للنمو والتطوّر حيث أنشأت المُدن الحديثة وافتتحت المدارس والجامعات وانتشر تعليم الفتيات ودخل فنا الرواية والمسرح إلى الأدب العربي وانتشر المسرح والجريدة والمجلة والسينما والراديو والتلفزيون.
لكن هذه النهضة سرعان ما تحولت تحت تأثير الحرب الباردة وخطاباتها المتنوعة الى نكوص بدأ تدريجياً وأخذ يسرع في الفترة الأخيرة بحيث فقدت جميع الخطابات مصداقيتها على أرض الواقع. فالإحصاءات المتوفرة تشير الى تراجع الكتاب المقروء، وانحطاط مستوى البحث العلمي في الأوساط الجامعية، أيضاً تدني مستوى الصحافة وابتعادها عن المهنية وانخفاض مستوى النشر وقلة المنشور وتراجع مستويات الترجمة.
وتحت شعار "الترجمة ومجتمع المعرفة" عقد "المجلس الأعلى للثقافة"، وهي أرفع مؤسسة عربية تهتم بأمور الترجمة، في منتصف شباط/فبراير مؤتمراً في القاهرة يبحث في الأمر، دعي إليه عشرات المترجمين العرب والأجانب ورعته السيدة سوزان مبارك زوجة الرئيس المصري، وحضرت افتتاحه شخصياً وقد تم فيه تكريم عشرة مترجمين أجانب وعرب من اللذين ساهموا في ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأخرى. وألقى المترجم الألماني هارتموت فندريش كلمة المكرمين والتي جسدت معاناة المترجم، وخصوصاً مترجم الأدب العربي، مستعيراً شخصية أسطورية هي شخصية القديس كريستوفوروس. هذا التكريم بقي رمزياً كالعادة ومجرد ورقة معنوية لا تسمن من جوع ولا تقي من العطش!
إنجاز كبير
وكانت مناسبة انعقاد المؤتمر هي صدور الكتاب الألف المترجم ضمن "المشروع القومي للترجمة" وذلك خلال عشرة سنوات وعن 28 لغة حيّة وميتة، وهو منجز كبير ويستحق التقدير. فقد عرفت مصر كأول بلد عربي في العصر الحديث أولى الخطوات الأساسية في الترجمة عبر تأسيسها مدرسة الألسن عام 1836 وهي خطوات ستتكرر في مصر وفي غيرها من البلدان العربية فيما بعد لكن هذه المشاريع تنقطع لهذا السبب أو ذاك.
وهي مؤسسات حكومية مدعومة وأغلبها لا يملك الأطر التي تمكنه من أن يكون ذا نفع وتأثير بسبب محدودية الحرية الممنوحة كما كان الحال في سورية والعراق مصر والكويت.حيث ينخفض سقف الحرية الى حد تزوير الكتب المترجمة وتقطيعها بسبب الرقابة المتيقظة أو بسبب نوع آخر من الرقابة والمتمثل في عمّال المطابع الذي أضحوا عسساً لسلطة دينية شعبية متخلّفة تحرّض الدولة على ترجمات المؤسسات الثقافة المصرية والمجلس الأعلى للثقافة، الأمر الذي اضطره الى أن يصدّر منشوراته بالجملة التالية:
"الأفكار التي تتضمنها هي اجتهادات أصحابها في ثقافاتهم ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المجلس الأعلى للثقافة" وهذه طريقة ذكية للتخلص من الرقابة، لكنها غير ممكنة في دول عربية أخرى كالكويت أو سوريا أو الامارات العربية المتحدة.
فرفض نشر ترجمة الكتب أو "تهذيبها" عادة شائعة لكي تلائم هذه الترجمات الساكن العربي اليوم. أيضاً أغلب هذه الترجمات ولارتباطها بموازنات مالية محددة لا يُعاد طبعها، ناهيك عن كون أغلب هذه الترجمات من التي يجب اهمالها وترجمتها من جديد.
أين التنسيق؟
والملاحظ العام أن الترجمات إلى العربية بأغلبيتها من اللغات الانكليزية والفرنسية وبشكل أقل من الاسبانية والروسية أيام الاتحاد السوفيتي وهي شبه معدومة اليوم، ولكنها قليلة جداً من اللغات الأوربية الأخرى، كما أنها نادرة من اللغات اليابانية والصينية وقليلة جداً من الفارسية والتركية والعبرية.
أيضاً لا وجود لتنسيق واضح ومنتج بين مختلف المؤسسات العربية ذات الاختصاص، وهي جميعها مؤسسات حكومية، ولا وجود لمنهجية واضحة، فأغلبها يعتمد الصدفة، وهي عبارة عن اقتراحات من المترجمين أو المؤسسات نفسها. فنظرة واحدة على اصدارات هذه المؤسسات إذ لا وجود لخطة عمل واضحة، فتجد أعمال يورغن هابرماس بأسوأ ترجمة عن الفرنسية منشورة في سوريا، أو نيتشة منشوراً بالمغرب بترجمة عن الفرنسية أو في سوريا عن الايطالية.
ولكي نعرف كيف يحصل المترجم على ضالته من الكتب، علينا أن نعرف طبيعة المكتبات التي تهتم بالكتاب الأجنبي في البلدان العربية، فباستثناء مكتبات في لبنان وتونس والمغرب من التي تهتم بالكتاب الأجبني بشكل جيد، فانها فقيرة وشبه معدومة في أغلب البلدان العربية.
وعلى عكس مستواها الجيد في السنوات الستين الأولى من القرن العشرين، حيث كانت امكانية الحصول على أي كتاب كبيرة وممكنة جداً، فإنها اليوم معقدة ومكلفة، فالمترجم العربي حاله الاقتصادية اليوم حال مواطنه، يعيش في عسر وقلّ منهم من يملك كارت الفيزا لكي يمكنه طلب الكتاب الذي يريده، في حال كانت الرقابة في بلده متسامحة نوعا ما أو جاهلة على الأقل.
حقوق الملكية الفكرية
لا وجود تقريباً لمفهوم الأعمال الكاملة المترجمة لهذا المفكر أو ذاك الكاتب، وأن وجدت كما هو الحال مع أعمال وليم شكسبير أو موليير التي نُشرت ضمن النشاطات اليتيمة التي رعتها الجامعة العربية في الستينيات أو غارسيا لوركا التي نشرت قبل سنوات قليلة، فالأفضل أن لا يحتفظ القارئ بهذه الترجمات الممسوخة في مكتبته.
تنعدم تقريباً المؤسسات الأهلية ذات الاهتمام الثقافي في البلدان العربية وهي أن وجدت كما في مؤسسة عبد المحسن القطان الفلسطينية أو سلطان العويس الاماراتية أو عبد العزيز البابطين الكويتية أو عبد الحميد شومان الأردنية، فهذه المؤسسات تدور في حلقة مفرغة من انعدام رؤيا لما تريد عمله، وكل حلقة المستشارين محدودة الأفق، باستثناء المؤسسة الأولى.
أيضاً ثمة مشكلة نجدها تتكرر لدى المؤسسات الحكومية ودور النشر الأهلية، فنظراً لعدم التزامها بحقوق الملكية الفكرية نجد أحياناً للكتاب الواحد أكثر من ترجمة منجزة باسرع ما يمكن، وخصوصاً كتب ميلان كونديرا وايزابيل اليندي وغابرييل غارثيا ماركيز وباتريك سوزكند.
وفجأة نجد الناشر العربي الجاد في مواجهة مؤسسة نشر حكومية تنشر ترجمات غير مأذونة لكتب يملك حق نشرها باللغة العربية ومن يصارع مؤسسات الحكومة من الناشرين العرب يكون مصيره غير محمود.
ناقش المؤتمرون بعض هذه الأفكار وغيرها، وتمنّوا على لسان البروفيسور جابر عصفور المحرّك الأساسي لهذا للمشروع القومي القومي للترجمة تطوير خطة للترجمة، تعتمد الترجمة عن الأصل، احترام حقوق الملكية الفكرية، العلاقة المباشرة مع الناشرين أو وكلاء المؤلفين وتجنب العشوائية، - وهذه للأسف كانت السمة البارزة في الألف عنوان التي ترجمت ونشرت واحتفل بها، - وتحسين مكافأة المترجمين وتوسيع المشروع لكي يشمل اسناد ترجمة ونشر المؤلفات العربية في اللغات الأخرى.
وهذه الخطوة الأخيرة بقدر ما هي مهمة وأساسية فهي يمكن أن تؤدي الى عكس الهدف الذي تتوخاه، وذلك بسبب الضوابط المطلوب الالتزام بها والحرية المحدودة في الاختيار التي هي سمة أساسية في المشاريع الحكومية.
وكل هذا مرتبط بالطبع بالخطوة المرتقبة من السيدة سوزان مبارك التي عليها أن تواصل رعاية هذا المشروع ودعمه بما يكفي من الأموال. خطوة واحدة من مئات الخطوات التي على المؤسسات العربية الحكومية والأهلية أن تخطوها لكي يتغيّر المشهد قليلاً ويتحول المستحيل إلى شيء ممكن نوعا ما.
خالد المعالي
حقوق الطبع خالد المعالي 2006
*خالد المعالي كاتب ومدير دار منشورات الجمل في كولونيا/ألمانيا