تونس- حرية الابداع بين التهديد والتكفير وضوابط العمل الفني
٢٩ يونيو ٢٠١٢يتواصل الجدل في تونس حول ضوابط وحدود الابداع وحرية الفعل الفني ويتداخل السياسي بالديني والثقافي بالاجتماعي على خلفية ما حدث في قصر العبدلية خلال تظاهرة ربيع الفنون التي شهدت اتهام وزيري الثقافة والشؤون الدينية للفنانين بالمس بالمقدسات. ثم تطورت ردود الفعل لتشهد البلاد موجة عنف شملت العديد من المناطق وليصل مداها حدّ التهديد بالقتل عندما طالب إمام جامع الزيتونة بإهدار دم الفنانين المشاركين في المعرض.
ويقول عمر الغدامسي، رئيس نقابة الفنانين التشكيليين في حديث لـ DW عربية إنه ليس هنالك أي شكل من أشكال المساس بالمقدسات في أي عمل فني عرض بقصر العبدلية خلال التظاهرة، وإن وزارة الثقافة اعتمدت في موقفها على ما روج على الشبكات الاجتماعية دون أن تتأكد من الأمر. ويؤكد الغدامسي أن الهجمة الشرسة على الفن والفنانين تمثل اليوم تهديدا لحرية الخلق والابداع. ويضيف "لقد بلغ الامر حدّ تهديد المبدع في حياته عبر شبكات التواصل الاجتماعي أو عبر الهاتف إضافة إلى التهديد في مقرات العمل والمنازل الخاصة بعدد من الفنانين".
ويبيّن الغدامسي أنه تم اتخاذ إجراءات عملية لحماية عدد من الفنانين نظرا لهشاشة الوضع الامني وموقف وزارة الثقافة "المخجل". ويوضح أن موقف الوزارة قد تطور بعد أن اكتشفت أن ليس هناك مس بالمقدسات وأصبحت اليوم أكثر وعيا بدرجة الخطر الذي يعيشه الفنان.
ويقول عمر الغدامسي أنه منذ 14 كانون الثاني / يناير هناك سلسلة من التهديدات للفن وللفنانين في المسرح والسينما والفن التشكيلي، ويضيف بأنه تم الاعتداء بالضرب على النوري بوزيد، المخرج السينمائي المعروف، وتم تعنيف رجب المقري المسرحي أصيل جهة الكاف، كما تم الاعتداء على عدد من أساتذه الفنون التشكيلية بتونس العاصمة والقيروان. ويؤكد الغدامسي أن هناك هجمة على الحريات وعلى الفنانين وعلى المجتمع ككل في اختلافه وتنوعه.
أما الفنان التشكيلي والامين العام السابق لاتحاد الفنّانين التشكيليين عبد الرحمان مدجاولي فيؤكد في تصريح لجريدة "المغرب" التونسية إثر رفعه لدعاوى أمام المحاكم ضد وزيري الشؤون الدينية والثقافة وإمام جامع الزيتونة على خلفية تداعيات معرض قصر العبدلية أن "موجة الاعتداءات وموجة التكفير المستمرة على المثقفين من محمد الطالبي ويوسف الصديق وصولا إلى ألفة يوسف ليست صدفة، بل أمر ممنهج لإنزال الرعب في صفوف نخبنا، فلا بد من وقفة جماعية لا فردية، وما وقع في الجزائر سنوات التسعينات ما يزال عالقا بالبال".
مهرجان قرطاج و"تغييب الفنان التونسي"
وفي خضم هذ المد والجزر والجدل الدائر حول حرية الابداع وعلاقة التونسي بالثقافة المحلية والكونية، تستعد تونس لاحياء مهرجاناتها الصيفية وخصوصا الدورة 48 لمهرجان قرطاج. فقد أعلنت وزارة الثقافة في ندوة صحفية مؤخرا عن برنامج المهرجان الذي سيقدم 27 سهرة فنية متنوعة نصيب الفنانين التونسيين منها لا يتجاوز الست سهرات. وأسال ضعف تمثيل الفنان التونسي في مهرجان تنظمه وزارة الثقافة حبرا كثيرا ودفع نقابة المطربين التونسيين إلى إعلان الانسحاب من سهرة الافتتاح احتجاجا على تغييب الفنانين التونسيين، حسب تعبيرها. وبعد أخذ ورد بين الوزارة وإدارة المهرجان من ناحية ونقابات المطربين المحترفين والمؤلفين والملحنين والمهن الموسيقية من ناحية أخرى تمت اضافة أربع سهرات تونسية لمهرجان قرطاج الدولي لاثراء برنامجه ودعم الحضور الفني التونسي فيه، كما تمت اضافة فضاءات قصر العبدلية ومتحف قرطاج واعتبارها امتدادا عضويا للمهرجان.
ويأخذ عدد من النقاد والفنانين على وزير الثقافة التونسي قبوله ببرمجة سهرات لعدد من المطربين الذين لا تختلف أعمالهم عمّا تقدمه بعض الوجوه الفنية التي رفض الوزير حضورها في المهرجان على غرار فاضل شاكر وتامر حسني وأليسا ونانسي عجرم. ويحضر هذه السنة كل من رامي عياش ووائل جسار باسم "ديكتاتورية الذوق السليم" التي قال الوزير أنه يتبناها عندما أطلق مقولته الشهيرة "على جثتي صعود نانسي عجرم وأليسا على مسرح قرطاج". وقد رأى البعض في ذلك تخبطا للوزارة وغياب استراتيجية واضحة للعمل الثقافي في تونس بعد الثورة. وقد بيّن المهدي المبروك وزير الثقافة التونسي خلال تقديمه لبرنامج مهرجان قرطاج الدولي أنّ الوزارة "تعمل على إرضاء جميع الاذواق وقد تضطر إلى التنازل في بعض الاحيان، وهي التي لا تزال تتلمس استراتيجيتها".
التنميط الثقافي والخصوصية المحلية
ويرى عدد من النقاد والمهتمين بالشأن الثقافي في تونس أن ما تعيشه البلاد من جدل حول حدود الحرية وضوابطها ومعوقات الابداع الفني ومكانة الفن المحلي، أمر طبيعي لشعب عاش في ظل الاستبداد الثقافي لسنوات، وهذا الجدل يساهم في تشكل فهم جماعي وحدود خاصة للابداع الفنّي نابعة من الواقع اليومي والمحيط الاجتماعي للفنان.
ويقول الممثل الطيب الوسلاتي في حديث لـ DW عربية، أن تونس تعاني من التنميط الثقافي ومن تلاشي هويتها المحلية. فكل المشكلات تنبع من تقليد الآخر، وعلينا كما في المأكولات استعادة تقاليدنا المرتبطة بالقمح الصلب وبدقيقنا المحلي؛ واستعادة رؤيتنا الخاصة بالابداع وبالفن وبنظرتنا للعالم الذي نعيش فيه بمنظارنا نحن وليس بمنظار الآخر المختلف عنّا بطبعه.
ويبيّن الطيب الوسلاتي أن ليس هناك أي تهديد للحرية، فالتسامح هو جوهر الدين الاسلامي. ويعقب أن هناك العديد من الكتابات و"التلفيقات" تصب الزيت على النار، وتستفز المواطن البسيط وحتى غير المتدين. ويضيف أن هناك "أفكاراً مشلولة" و"مقيدة" بنظرة الآخر للابداع وللحرية. ويقترح الوسلاتي الذي قام في السبعينات وطيلة خمس سنوات برحلة حول العالم "بالاتوستوب" زار فيها الشرق والغرب، أن البحث في الموروث الحضاري عن بدائل ثقافية واقتصادية والمحافظة على خصوصية الهوية التونسية ذات الجذور العربية والاسلامية هو السبيل الوحيد لتجاوز اشكالية الابداع وحدوده وضوابطه، فحضارتنا هي التي يجب أن تحدد لنا ضوابط وهوامش الفعل الثقافي والابداعي كما تحدد ضوابط الحياة العامة والخاصة في مجتمعنا، ولا يجب أن تفرض حضارة الآخر رؤيتها للابداع والفن. ويقترح استنباط ضوابط خاصة بنا انطلاقا من هويتنا المحلية ومن سوسويولوجيا المجتمع الذي نعيش فيه، "فديمقراطية الغرب لاتصلح إلا للغرب وعلينا البحث عن ديمقراطيتنا نحن".
ضوابط وحدود العمل الابداعي
ويؤكد أستاذ الفنون بجامعة قرطاج أمين السعفي في حديث لـ DW عربية، أن ضوابط العمل الابداعي كثيرة ومتعددة، تختلف وتتنوع باختلاف المجتمع الذي ينتمي إليه المبدع، وهذه الضوابط قد يحددها الفرد لنفسه، كالقناعات والمبادئ الخاصة، التي تسطر طريقة عيش الفنان وممارساته الفنية. ومنها ما لا يحددها الفرد وإنما هي نتاج تطور المجتمع وعصارة تجربة الفاعلين فيه، وهي مجموعة الضوابط العامة الدينية والأخلاقية والاجتماعية والحضارية، التي يتفق على تسميتها بالثقافة. والضوابط إطار جامع، له نواميسه وقواعده وأعرافه. و يبقى الفنان أحيانا رهين التقنية التي يستعملها كالذي يخضع لأنطمة العمل الرقمية مثلا، وهو لا يشتكيها بقدر ما يتكيف معها. فكيف له أن يقبل بهذه ويرفض تلك؟
ويوضح أمين السعفي أن حرية الإبداع هي تعبير الفنان عما يخالج نفسه بوسائله الخاصة وتعبيراته الذاتية، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصيات المجتمع الذي ينتمي إليه واحترام هوية الوطن وركائزه التي يقوم عليها. وهي ليست أمورا مستحدثة ولا بدعة نقتصر عليها في بلادنا، وإنما هي ميزة وخصوصية تعتمدها مختلف الشعوب بوعي أو بدونه.
وحول مؤسسات الرقابة على الابداع، يتفق أهل الفن من سينمائيين ومسرحيين وتشكيليين على أنه لا مكان في تونس ما بعد الثورة للرقابة على الابداع تحت أي بند أو مسمى. ولا أحد يمكن أن ينصب نفسه وصيّا على الجمال أو أن يحدد مقاييسه.
وأكدت في هذا الصدد الرابطة التونسية للدفاع عن الحريات الاكاديمية والابداعية في بيان للرأي العام أن "وزارات الداخلية والشوؤن الدينية والثقافية ليس من اختصاصاتها ولا من صلاحيات وزارائها إصدار أحكام تقييمية عن الفنون أو منعها، فذلك متروك للنقاد وأهل الاختصاص والجمهور". ونددت الرابطة في نفس البيان "بدعوة البعض لما سمي بـ "تجريم المس بالمقدسات" واعتبرته "مصطلحا غامضا لجريمة افتراضية وايديولوجية من عصر محاكم التفتيش، قصد بها من تحمس لها دون وعي إرهاب المبدعين ومنع النقد والفكر الحر والبحث العلمي".
ويتفق المشتغلون بالفنّ من النقاد والمهنيين أن لا حاجة ماسة للرقابة على الإبداع في تونس تحت أي مسمى، ويعلل أستاذ الفنون بجامعة قرطاج أمين السعفي هذا الطرح بأنّ المبدع الذي يحمل أنبل رسالة، ألا وهي رسالة الفن، هو أهل لأن يكون رقيبا على نفسه، ولا أحد غيره يمكن أن يراقبه غير ضميره وحسّه الفني ووعيه باشكاليات واقعه.
تونس- خالد بن بلقاسم
مراجعة: عارف جابو