رحلة إلى سنوات الطفولة الخضراء
٢٩ فبراير ٢٠١٢وقفنا منتعلين أحذية مطاطية صفراء داخل المياه الموحلة العكرة في النهر الذي يطلق عليه موداو، وهو نهر صغير يتدفق عبرغابة أودن ويصب في نهر الراين. وقفنا ثلاثتنا هناك، وكان أحدنا يمسك بكيس قمامة أزرق اللون، بينما الآخران ينتشلان كل ما يمكن انتشاله من داخل المياه الرمادية: علب الكولا الصدئة والأكياس البلاستيكية، أو حذاء وبعض المسامير. كلها نفايات ألقى بها سكان القرية على مر السنين في ذلك النهر الصغير.
كنا غاضبين ثلاثتنا، وكنا نرغب في فعل شئ ما لمساعدة النهر، سعيا إلى تحقيق هدف أكبر، يتمثل في إعادة سمك السلمون ليعيش ويتكاثر في المياه نظيفة مرة أخرى. نحن مارسنا الصيد منذ سن السادسة، وكنا نعرف كل أنواع الأسماك في النهر. وقد كان بعض الصيادين القدامى يتحدثون باستفاضة عن "سلمون 2000"، وهو برنامج لإنقاذ الأسماك في نهر الراين ، الذي كان في أواخر الثمانينيات عبارة عن مجرى موحل كريه الرائحة. اليوم عاد سمك السلمون ليسبح مجددا في نهر الراين، لكن الوضع كان مختلفا كليا في عام 1992.
حماس الصغار ونماذج الكبار
وبينما كنا نقف هناك، نادى علينا فجأة رجل من فوق السور الفاصل بين النهر والمنطقة المخصصة للتنزه. لقد كان الرجل المشرف على الشباب اليافعين في قريتنا، وعندما أخبرناه بما نفعل في النهر وبأهدافنا، قرر فورا تأسيس مجموعة الشباب البيئية مول تال. ما قمنا به في السنوات الثلاث التالية، كانت أنشطة الترفيهية ولكنها تضمنت أيضا دروسا حقيقية لتعزيز الوعي البيئي وتعميقه. إن نهج المشرف الشبابي كان يرتكز على سياسة تربوية تعليمية خالصة، وهكذا تعلمنا كيفية الحفاظ على نظافة ضفة النهر، وإعادة مياهه للجريان بصورة طبيعية مرة أخرى. وكنا نخرج في رحلات ليلية لمراقبة الخفافيش وننقذ الحشرات التي جذبها تيار المياه إلى داخل النهر.
لكن السنوات مرت وكبرنا ولم يعد باستطاعتنا البقاء في عضوية جماعة الشباب اليافعين المدافعة عن صحة البيئة. وعندما بلغت السادسة عشر من عمري أصبح اهتمامي بالسياسة أكبر، وكنت أتحمس للخروج إلى الشارع والمشاركة في الاحتجاجات ضد الطاقة النووية وكنت أرغب كذلك في تغيير الوضع في قريتي بحكم انتمائي لها.
والآن عندما أعود بذاكرتي إلى الوراء، أتساءل عن النجاح وعن الفشل، فبيئتنا المباشرة المحيطة بنا، كانت عاملا حاسما بالنسبة للعمل والتأثير ضمن المحيط المألوف، والحصول على الاعتراف منه. إلا أن كل ذلك لم يكن ممكن التحقيق دون توفر الدعم اللازم، وكنا محظوظين بوجود مشرف الشباب بيننا، وعلى الأرجح كان الأمر كذلك بالنسبة لحماسنا الزائد ومشروعنا الجرئ بشأن سمك السلمون.
عصر جديد للتعليم البيئي
لكن اليوم يتوفر مناخ أفضل للتعليم البيئي، ولدي انطباع بأن هذه القضية لم تناقش في مستهل التسعينيات إلا بوصفها قضية ثانوية، إذ إن حدث إعادة توحيد ألمانيا ونتائجه، كان الموضوع المسيطر على كل النقاشات الدائرة آنذاك.أما في الوقت الراهن فيطرح الكثيرون أسئلة حول الطبيعة التي نريدها لأطفالنا، وهناك من الكتاب من يدعو في كتبه ومقالاته إلى تقوية صلة الأطفال بالطبيعة وإعادة تعريفهم بها، ومنهم على سبيل المثال خبير علم الاجتماع الطبيعي راينر بريمار. كما وصلت إلينا أصداء النقاش الدائر في الولايات المتحدة في هذا الصدد، حيث حقق في عام 2005 كتاب "الطفل الأخير في الغابة" مبيعات عالية، وأثار وضرب نقاشات واسعة.
تتابع هانا هاينفيتر المستشارة المستقلة في شئون البيئة المؤتمرات البيئية عن كثب، وتقول بأن لديها شعور ما بأن التغيير يحدث. وهي تتحدث عن الكثير من الأفكار جديدة في مجال التربية البيئية، ويمكن لهذا التغيير أن يتجلى في الرحلات المدرسية على سبيل المثال في هامبورغ وأيضا التخييم في البرية المناخ ودورات تعريف الأطفال بالطبيعة وبرامج تدريب للمعلمين، والتخصصات الجامعية الجديدة. وهناك برامج مثل "كيتا 21"، حيث يتفتح وعي الأطفال في مرحلة مبكرة على موضوع مهم مثل كيفية الحياة بأسلوب مستدام. هذا بالإضافة إلى الأفكار المختلفة التي قادت لتكوين شركات يديرها تلاميذ مدارس تحت إشراف جامعة برلين الحرة، حيث يسير العمل بشكل يثبت التناغم بين تحقيق الربح للاقتصادي والرفق بالبيئة، وقد نجح هذا المشروع في إثارة حماس الشباب الأكبر سنا بشكل دائم، وهم عادة ما يفقدون اهتمامهم للقضايا المختلفة سريعا.
التنوع الأفكار في الوقت الراهن مشجع، ويجعلك تفكر بأن أن أطفالنا تمتعوا بفهم أكثر منا ربما، من أجل حماية الطبيعة، والفرق يكمن أيضا في أنهم أكثر قربا إلى الطبيعة ولم يدفعوا مثلنا ليبقوا بعيدين عنها.
قائمة محظورات تحول بيننا وبين الطبيعة
تمكن المجتمع الألماني بقائمة محظوراته العامة من التسبب في حالة انفصال بين الفرد والطبيعة، فأصبحت بذلك بعيدة وغريبة ولا يمكن التمتع بها إلا من خلال تأملها من وراء الأسوار أو خلف الشاشات.
نحن أيضا بذلنا جهودا في محاولة منا لتخليص ابنتنا من هذه الحواجز، ولكن الفصل بيننا وبين الطبيعة والذي نشأنا نحن الآباء عليه، لا يزال موجودا في داخلنا. إلا أن المحاولات مستمرة لتقريب المسافة الفاصلة، وأسعى لهذا حتى عبر كتاباتي كصحفي، فاليوم فرغت من كتابة موضوع حول سمك السلمون في نهري الراين والزيغ، تلك الأسماك تتقافز بالقرب من بون في الخريف على ارتفاع 1.80 مترا هدار، مشهد يذكرك بألاسكا، والناس يأتون ليتفرجوا عليه. من كان يتصور قبل 20 سنة شيئا مثل هذا؟ لا أحد هناك ولا أحد في قريتنا كان يتصور ذلك.
الكاتب: تورستن شيفر، نهلة طاهر
مراجعة: سمر كرم